الجنوب العربي وذلك الحُب الذي لا يشبه الحُب

لم تكن القضية الجنوبية شعار عابر، بل قضية وطن وهوية وتاريخ، قضية حية متجذرة في الأرض والوجدان ، فهي الحلم الممزوج بالدم والصبر، والمحفوظ في قلوب أجيال تعاقبت على الألم والأمل، ولأنها كذلك فقد ولد المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو 2017م من رحم معاناة الشعب كوريث شرعي للنضال الجنوبي الذي انطلق بعد احتلال قوى الشر اليمنية للجنوب العربي في يوليو الأسود 1994م، وتمخض عنه الحراك الجنوبي الذي انطلق كالمارد في العام 2007م، وولادة هذا المجلس لم تاتِ من عبث طارئ أو طموح فردي، فقد كان ولا يزال، أداة نضال اختارها الشارع الجنوبي ليحمل صوته ويترجم قضيته ويسير به نحو استعادة الوطن مهما كانت التحديات والتعقيدات.
ولا نكذب أو نظلم إذا قلنا إن الانتقالي، كمشروعٍ بشري وثوري معرض للخطأ وليس معصوم منه، نعم فقد وقع المجلس في أخطاء منها قرار متأخر، وموقف غامض يحتاج وضوح أكبر، واختيار غير موفق، وثغرة سمحت لرياح التشويش أن تتسلل إلى نسيج القضية، لكن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الكمال ليس شرطاً للنضال فهذا أمر صعب المنال، لكن الشرط هو الصدق في التوجه، والنية والاستعداد للتصحيح، والقدرة على التعلم وسط عواصف التحولات، فذلك ما يرسخ أركان هذا المشروع.
وفي أتون هذه المسيرة تظهر علينا فئة النقاد المتخفون الذين لا يرون في الأخطاء فرصاً للبناء، بل أبواب للطعن في جسد هذا المشروع لا يهمهم ولا يستوقفهم الخطأ ليصححوه، بل يغريهم تضخيمه وتشويهه حتى يختلط في أذهان الناس بالخيانة والفشل.
هؤلاء لا ينتقدون حباً، بل يشككون عن كراهية، لا يسألون كيف نصلح بل يهمسون كيف نسقط هذا المشروع؟ والأدهى من ذلك أن كلماتهم، في ظاهرها وطن جنوبي، وفي باطنها سم تكاد تلتقي أحياناً مع خطاب خصوم القضية من خلف الحدود الجنوبية.
فكيف لشخص عاقل أن لا يلحظ هذا التماهي العجيب بين نقدهم الوطني ونقد أعداء الجنوب؟
كيف تصبح لغة العدو الذي يحلم برؤية الجنوب فريسة تتخاطفها قوى الشر اليمنية مثلما تخاطفتها في 1994م، ولغة الناقد المزيف واحدة، والغاية واحدة، والصدى واحد ؟
فمن أين يأتي هذا الحرص الذي لا ينبت إلا الشك، ولا يثمر إلا التشكيك، ولا يبقي في القلوب إلا الرماد؟
لا شك أن المجلس الانتقالي، وكل أدوات النضال الجنوبي، ليست معصومة ولا محصنة من النقد البناء والعتاب الوطني، لكن النقد الحقيقي لا يمارس من خلف شاشات وهمية، ولا يصدر بالهمز واللمز أو الفبركات، ولا ينطلق من غيرة ملوثة بالأنانية٠
النقد النزيه شجاعة، أما النقد المسموم خيانة مغلفة بالكلمات، لا ينبغي لأحد أن يرفض النقد الصادق، فكل حركة نضالية تحتاج من يبصرها بعيوبها، لكن ما نرفضه هو أولئك الذين يصطادون في الماء العكر وفي كل زلة، ويتربصون بأي اختلاف ثم يقدمونه كهدية على موائد أعداء الجنوب بوصفه دليل للأنقسام وعلامة السقوط٠
الخطر الحقيقي ليس في أن نخطئ، بل في أن يستغل الخطأ لصناعة خذلان داخلي، والخصوم يعرفون هذا جيداً، لذلك لا يتوقفون عن نفخ النار عند كل أزمة، ويسرهم أن يجدوا بيننا من يردد نفس نغمتهم٠
أليس من العجيب أن بعض أبناء الجنوب، حين ينتقدون الانتقالي، يستخدمون نفس الألفاظ ، ونفس الحجج، ونفس الاتهامات التي يطلقها أعداء القضية؟
أليس غريباً أن يلتقي (النقد) و(العداء) في نبرة واحدة، وفي توقيت مشبوه، وفي نتائج واحدة هي التشكيك، التقسيم، زرع اليأس؟
لذلك علينا كجنوبيين ألا نخاف الحقيقة، لكن أن نحذر التزوير، نعم، نصرح بالأخطاء، ننتقدها، نناقشها، ولكن لا نسمح لأحد أن يحول غضبنا إلى خنجر في ظهر مشروعنا الجنوبي.
الجنوب لا يحتاج إلى قطيع يصفق، بل إلى رجال أحرار يصوبون المسار، ولا يحتاج إلى فوضى النقد، بل إلى وعي ناضج يفرق بين من يعارض ليصلح، ومن يعارض ليسقط، فالوطن لا يُبنى بالتشكيك، بل بالإيمان، وبالمسؤولية، وبالعمل الجماعي، فلا نكون مطايا في يد العدو، ولو عن غير قصد٠
بقلم. بلعيد صالح محمد




