في تفكيك صنميّة الواحد: نقد الهيمنة والأبوية في خطاب الوحدة اليمنية

عند إخضاع خطاب أنصار الوحدة اليمنية لمبضع النقد من منظورات مناهج نقد الخطاب الحديثة، لا يبدو هذا الخطاب مجرد موقف سياسي يدعو للحفاظ على كيان سياسي جغرافي، بل يتكشف بوصفه سردية شمولية متجهمة وقاتلة تسعى لابتلاع الهوامش وتحقير السرديات الأخرى وسحقها إن أمكن، متسترةً خلف قناع من القداسة وأسطورة المصير الحتمي.
إن أزمة هذا الخطاب لا تكمن في فكرة الوحدة كقيمة إنسانية أو سياسية يمكن التفاوض حولها والبحث في أوجه ممكناتها المعقولة والنافعة، بل في تحويلها إلى أشبه بعقيدة دينية متعالية على النقد والنظر والمراجعة على الرغم من قيامها واستمرارها على كومة هائلة من الكوارث والأزمات.
إن السمة الأبرز لهذا الخطاب هي ما يُسمى بـ”المركزية اللوغوسية” حيث يحتكر المركز (الذي يمثل السلطة التقليدية) الحقيقة والمقدس الوطني ومخزن للمبادئ والقيم لا ينضب، ولهذا فهو يقوم بتصدير مفهوماً للوحدة لا يقوم على الشراكة والتعاقد، بل على الدمج القسري والصهر والتذويب، فهو يفترض مبدئياً وعلى نحوٍ حتمي حضوره هو حضور للحق والصواب والوطنية الخالصة، هنا، يتم التعامل مع الجنوب العربي ليس كطرف شريك ذي كينونة سياسية وثقافية مستقلة، بل كفرع ضال على الدوام ولم يمكن أن يتحقق له النضج والرُشد إلا بوصاية الجمهورية العربية اليمنية الشقيقة كلية، ولهذا فالهدف كان دوماً في ضرورة إعادة هذا الإبن الضال والقاصر السياسي إلى بيت الأصل (لعب الفضاء الجيوسياسي دوراً رئيسياً في تشكيل هذه الأسطورة من خلال واقع هيمنة القوى التقليدية – والأصلية/الأصيلة وفق هذه السردية – الشديدة على اليمن الشقيق في مقابل ممكنات الجنوب الدائمة بالانفتاح على العالم).
هذه النظرة تجسد جوهر الأبوية السياسية، فالجنوبي مثّل على الدوام “أسطورة السوء” في قلب هذا الخطاب، وفي كل المراحل كان يتم تصويره باعتباره مصدر الضلال والفوضى والتوحش والعمالة والخيانة طالما لم يرتبط بعروة الوحدة، على عكس المركز الذي لا يخلو دوماً من التدثّر بصورة “الأب” العاقل المالك للحكمة، بشكلٍ عامٍ، أو كتيار، أو توجه سياسي أو فكري. لم تقتصر هذه النظرة في الموقف الحاد مع الآخر المختلف (المطالب بالاستقلال أو التصحيح) على فضاءات النقاشات العامة، بل تحوّل إلى مسوغٍ شرعي يُحرِّض الداخل والخارج على ضرورة ممارسة الوصاية والتأديب على هذا الجنوبي، ولا مانع من أي خيار عسكري داخلي أو خارجي لضمان بقائه داخل بيت الطاعة الوطني، وأحد أبرز تجليات هذا الخطاب، هذه الهستيريا شديدة الانفعال والتوتر، “هستيريا نهاية التاريخ” كما أسميها، التي تفلّتت من عقال العقل والمنطق، وبشكلٍ أهوج، في الفترة الأخيرة بعد انتشار القوات المسلحة الجنوبية على حساب المنطقة العسكرية الأولى، وهي لا تكف عن التفلّت المتشنج في كل مرحلة، ودون أن تبذل أي جهد في رش مقواقفها ومقولاتها بأبسط الاحترازات المنطقية والحثيثات الواقعية الفاقعة بعيداً حتى عن مثنوية التدافع – الوحدة/الانفصال – كالتهريب والارتباط بالتنظيمات الإرهابية ومدّ الحوثي بالسلاح، وكما أشارت كل التقارير الدولية مؤخراً، وهذه القضايا يُفترض أن تُمثِّل في الحقيقة جوهر أو عمق الخطاب/الهم الوطني الحقيقي).
يمارس الخطاب الوحدوي عنفاً رمزياً من خلال محاولته المستميتة لاحتكار التعريف والتصنيف، فهو يقيم ثنائيات ضدية حادة: (الوحدوي/ الوطني) مقابل (الانفصالي/ الخائن). هذه الثنائية لا تهدف للنقاش، بل للإقصاء؛ فهي تجرد الآخر من شرعيته الأخلاقية والسياسية، وتبرر ممارسة القمع ضده باعتباره خطراً وجودياً، يتحول مفهوم الوحدة هنا من “عقد اجتماعي” قابل للمراجعة والتطوير وحتى النقض إن اُخل بكل شروته وصارت له تبعات كارثية، إلى “عقيدة دينية” لا يجوز النقاش حولها، وكما أسلفنا، وبالتالي فأبسط خروج عن هذا “الدين الوحدوي” ولو من باب إصلاحه يُعامل معاملة المرتد، مما يغلق الباب أمام أي حوار عقلاني حول مفهوم الوطن والوطنية في دولة لم تُقم إلا على سلسلة متواصلة من حروب الغلبة والإخضاع.
يَكْشِف خطاب الوحدة اليمنية بشكله الحالي عن بنية سلطوية عميقة تعتمد على “إلغاء الآخر” ومشروعية وجوده بشكلٍ جذري كشرط لوجود “الذات”.
إن الوحدة الحقيقية الجنوبية لا يمكن أن تُبنى على أنقاض الآخرين أو تحت سياط الوصاية الأبوية، بل تستوجب – كشرطٍ ضروري ومسبقٍ – موتاً حتمياً للواحد المتعالي والمهيمن لتسهيل ولادة جديدة لفضاء شراكة وطنية حقيقية يكفل للآخرين المساواة والفاعلية والمشروعية الكاملة، ويُكرِّس فكرة بأن أي شرعية لا بد أن تُستمد من قبول الناس ورضاهم لا من قداسة الشعارات، وبدون هذا التفكيك الجذري، سيظل شعار الوحدة مجرد قناع أيديولوجي قاتل يخفي تحته رغبة جامحة ونهائية في السيطرة والاستحواذ، وفي بيئة معقدة جغرافيا واجتماعيا وموقعاً، فمثل هذا التوجه/السلوك يحمل شروط فنائه في ذاته، فكل أسباب التنافر والتناقض والمقاومة تقبع في جوهر، كقانون طبيعي.
بقلم. أمين اليافعي




