جسر عقان ورمزيّة الشاعر ثابت عوض

خاطب الشاعر الشعبي ثابت عوض اليهري في أوج الغليان الشعبي الجنوبي الرافض للتواجد الشمالي على أرضنا أبن الجزيرة في بيتين شعر وذلك من قصيدة شعبية لحنها الفنان القدير علي صالح اليافعي رقصت أيامها على أهازيجها الساحات شوقًا وطربًا: يابن الجزيرة أملنا فيك # أنك تعي ما يدور الآن
توقف إلى جانب إخوانك إن كان لك في الجنوب إخوان.
ما أن بلغت أبن الجزيرة المنادة ليغتم الفرصة متذرعا بالحوثيين كاسرًا حاجز القطيعة مع الجنوب ومبادرًا من حينه يطوي السهول والقفار طي السماء للسحب، وياليته ما كسر وبادر، وياليت ثابت عوض تبلّدت عنده تلك الليلة قريحة الشعر فسكن هاجسه عن الكتابة لينام مع الطيور والعصافير، إلا ينتشي بهذا الشكل تحت ضغط مفعول القات اليافعي والنتيجة اختلاط فراسة الشاعر بحيلة المضطر البائس فانتهينا إلى ما انتهينا إليه اليوم.
الأمر من ذلك: فشاعرنا الشعبي لم يحتاط وبالغ كثيرًا ويتوجًب من موقعي هذا وأنا المحاصر بالماء بالقرب من جسر عقان محاكمته محاكمة رمزية عادلة، فالوقت بالتوقيت المحلّي يشير للثانية عشر بعد منتصف الليل ومازلت من خمس ساعات عالقًا على شفير الوديين العظيمين (ورزان وتبن) يمنعني السيل عن بلوغ مبتغاي، خمس ساعات ثقيلة كثقل من تعلّقت فيهم آمالنا وقويت بقدومهم احلامنا لتفتح لهم قلوبنا وعيوننا قبل أراضينا، خمس ساعات كل دقيقة من دقائقها تمر تستحضرني ذكرى لماضي انطوى ساد فيه مدن وأرياف الجنوب الأمن والاستقرار والرخى المعيشي، وهذا الشامخ من خلفي المعطّل بفعل ضرب طيران إخواننا في تحالف الجزيرة، ومنذ تسع سنوات شاخصا للسماء لم يعاد ترميمه واحدًا من الشواهد الدالة على ذلك.
فالحراك السلمي الجنوبي وعلى مسيرة إنطلاقته ارتكز نظاله على التأييد الشعبي لم يأبه للجوار الخليجي بشيئ وكأنّه كان على يقين ما سنسلكه من متاهات ومن دروب شائكة حال تدخلهم في شؤوننا، والسبب أظنه يعود كله لمصالح السعودية التي أصبحت آنذاك تتقاطع مع مصالح نظام صنعاء، والأخير ما أن قويت شوكة بدخوله عدن حتى رسّم حدود اليمن الشمالية والغربية وبمقابل غض الطرف من قبل المملكة السعوديه نفسها له عن الجنوب وهبها نجران وجيزان وعسير.
يظهر أن جلسة المحاكمة للشاعر القدير الليلة ستطول وقد لن يرفعها إلا قدوم صلاة الفجر أو إنحسار منسوب مياة الوادي عن الجريان، فكما يقال لا يسهر الليل إلا من به الماً والنار ما تحرق إلا رجل واطيها، فكلي ومن حولي مشاعر تنضح بالحسرة وبالألم ساهرًا من خلفي ظلام ومن أمامي ظلام لا أفقه إلا إمتزاج هدير السيل بأصوات العالقين.
يومين في عدن ففخِلتُ هروبي من جحيمها الذي لا يطاق أصلح لي وأحسن، لأوي إلى صخرًا أصم يشدّني × وياليت لي قلبا كهذه الصخرة الصماءِ. ينتابها سيلًا كسيل مكارهي × ويفتّها الجوع في اعماقي. مع الاعتذار لخليل مطران.
فأهل عدن أحرارًا بالفطرة كأنه والله أعلم نساء وأمهات هذه المدينة يغشًن لبنهن بمسحوق الحرية، وربما خوفًا من تأثير المكيفات والمراوح أن تخفض من درجة حرارة الرجال الثورية وبالتالي يُجهض ما اكتسبوه على المدى من صفات الإباء والمقامة، أرتئت الحكومة إمدادهم بالكهرباء بصورة متقطعة لا تزيد عن خمس ساعات باليوم كحد اقصى حال توفًر الوقود.
الوقت يقترب من الثالثة فجرًا والحمدلله على ما يبدو الماء عاد نحو الانحسار وأنا مضطرًا لرفع جلسة المحاكمة ليبقى منطوق الحكم متروك لثابت عوض نفسه، لكني قبل أن أمضي في سبيلي أجدها فرصة من موقعي هذا الغير محسود عليه لأذكَر بالرجل الذي إقترن أسمه بالجسر فنحِت وحفِر في الذاكرة كواحدًا من بناة نهضة الجنوب ألا وهو الرئيس الأسبق علي ناصر محمد أدعو له بموفور السعادة والصحة والعافية حيثما حلّ وارتحل، وبأسمي وبأسم كل محاصر بجانبي من يذوق الهون والتعب، أبعثها من الأعماق الف تحية وسلام له ولمن ساهم في تشيد هذا الصرح العملاق والذي ما أن كتب له ليرى النور إلا أهتدينا به وبمصرعه عاد العذاب من جديد.




